خط المستقيم

 

الفصل الأول

تعريف الإسلام

يعدُّ الإسلام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الشَّرائع السَّماوية، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأُرسل عليه الصلاة والسلام بدينٍ قد اختاره الله تعالى للبشريَّة إلى يوم القيامة.

الإسلام لغة الخضوع، والاستسلام، والانقياد، والدعاء، والتَّسليم.

واصطلاحا ما أوحى به الله تعالى إلى نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم فيما يتعلَّق بالعقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات وغيرها، فكلُّ ما جاء من الله تعالى ومن نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم لتنظيم حياة الخلق في علاقتهم مع ربِّهم أو مع نبيِّهم أو مع بعضهم أو مع الكون فهو يعدُّ من الإسلام.

والإسلام دين الأنبياء جميعاً حيث قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في سورة آل عمران: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وأتم الله هذه الرسالات السماويّة ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

اختصَّ الله شريعة النَّبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم بأنَّها خاتمة الشَّرائع السَّماويَّة، فلا شريعة بعدها. واختصَّ الله تعالى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بأن انقطع الوحي من الله بوفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا ينزل بعدها على أي عبد مهما بلغ اجتهاده في عبادته. قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا).

 

الفصل الثاني

مصادر التشريع الإسلامي

عَنْ مُعَاذٍ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : " كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ " قَالَ : أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ : " فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ " قَالَ : أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ " قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ

 

مصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها

·       القرآن الكريم

القرآنَ الكريمِ يعدُّ أحد مصادر التشريع الإسلامي، ودليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، و سُنَّةَ نبيِّه).

القرآن الكريم هو كلام الله عزَّ وجلَّ المنزلَ على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، المتعبد بتلاوته، المنقول إلينا بالتواتر، والمجموع بين دفتي المصحف الشريف، المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة النَّاس.

مثال على حكم من القرآن: حرَّم الله عزَّ وجلَّ على الرجل وطئ زوجته في كتابه المجيد، حيث قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ).

·       السنة النبوية

 أمَّا ثاني مصادر التشريع التي أجمع عليها أهل العلمِ فهي السنة النبوية، واستدلوا بقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)

السنةُ النبوية هى كلُّ ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو صفةٍ، من غير القرآن الكريم.

مثال على حكمٍ من السنة: حرَّم الله عزَّ وجلَّ في السنة النبوية الجمع بين البنت وعمتها في زواجٍ واحد، ودليل قول ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يُجْمَعُ بيْنَ المَرْأَةِ وعَمَّتِها، ولا بيْنَ المَرْأَةِ وخالَتِها).

·       الإجماع

وثالث هذه المصادر هو الإجماع، وقد اتفق أهل العلمِ على حجيةِ هذا المصدر، ومن أدلتهم قول الله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ).

الإجماع هواتفاق المجتهدين من أمةِ النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم في عصرٍ من العصورِ على حكمٍ شرعيٍ.

مثال على حكم ثبت بالإجماع: قال تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } أجمع العلماء على حرمة نكاح الجدات وإن علون؛ لأنهنَّ تدخلن تحت مسمى الأمهات. قال تعالى:{وَبَنَاتُكُمْ } أجمع العلماء على حرمة نكاح بنات الأولاد مهما نزلن لدخولهن تحت مسمى البنات.

·       القياس

 رابع المصادر التي أجمع عليها أهل العلمِ هو القياس، ودليله قول الله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)، والاعتبار هنا؛ يعني القياس، والأمرُ في هذه الآية للوجوبِ، وبذلك يكون القياسُ أحدُ مصادر التشريعِ.

تعريفه: إثباتُ حكمٍ لم يرد فيه دليلٍ شرعيِّ بناءً على حكمٍ وردَ في دليلٍ شرعيِّ لاشتراكِ هذين الأمرينِ بعلةٍ واحدة.

مثال على حكم ثبت بالقياس: قياس الضرب للوالدين على التأفيف بجامع الإيذاء و قياس إحراق مال اليتيم على أكله بجامع التلف في كل منهما و الحاق النبيذ بالخمر في تحريم الشرب وإيجاب الحد.

 

 مصادر التشريع الإسلامي المختلف فيها

·       الاستحسان

يُعدُّ الاستحسان أحد مصادر التشريع عند الحنفيةِ والحنابلةِ، ودليلهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما رَأى المسلمونَ حَسنًا؛ فهو عندَ اللهِ حَسنٌ) وذهب المالكية والشافعية إلى عدم حجيةِ هذا المصدر

الاستحسانِ هوعدول المجتهد عن حكمٍ كليٍ إلى حكمٍ استنائيٍ لدليلٍ رجَّح هذا العدول، أو عدوله عن مقتضى قياس جليٍ إلى مقتضى قياس خفي.

مثال على حكم ثبت بالاستحسان عند القائلين به: جواز الاستصناعِ استحسانًا استثناءً من قاعدة حرمة العقدِ المعدوم.

·       المصلحة المرسلة

عدَّ فقهاء المالكيةِ والحنابلة المصلحةَ المرسلةِ مصدرًا من مصادر التشريع، استدلالًا بفعل الصحابةِ الذين شرعوا أحكامًا لتحقيق مصالح العبادِ بالرغم من عدمِ ورود دليلٍ شرعيٍّ عليه، وذهب الحنفية والمالكية إلى عدم اعتبار المصالح المرسلة مصدرًا مستقلًا من مصادر التشريع

المصالح المرسلة هي كلُّ مصلحةٍ لم ينصِّ الشارع الحكيم على حكمٍ لتحقيقها، ولم يأتِ أيُّ دليلٍ شرعيٍّ على اعتبارها أو إلغائها.

مثال على حكم ثبت بالمصلحة المرسلة: اتخاذ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- السجون

·       العرف

عدَّ الحنفيّة، والمالكيةُ، وابن القيم من فقهاء الحنابلة إلى اعتبار العرفِ مصدرًا مستقلًا من مصادر التشريع، ودليلهم في ذلك قول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، بينما ذهب الشافعي إلى عدم اعتباره مصدرًا مستقلًا من مصادر التشريع

العرفِ هو ما استقرَّ من العادات في النفوسِ وتلقته الطباع السليمة بالقبول.

مثال على حكم ثبت بالعرب عند القائلين به: جواز تقسيم المهر إلى معجلٍ ومؤجلٍ بحسب العرف.

·       الاستصحاب

عدَّ المالكيّة، والحنابلة، وأكثر الشافعية أنَّ الاستصحاب عند عدم وجودِ الدليل يعدُّ مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي، مستدلين بالقاعدة الأصلُ في الأشياء الإباحة مالم يرد دليل على التحريم، وخالفهم الحنفية في ذلك حيث ذهب إلى أنَّ الاستصحاب ليس حجةً شرعية

الاستصحاب هو الحكمُ الشرعي الثابت في الزمن الماضي، وبقائه في الزمن الحاضر، حتى يرد دليل على تغييره.

مثال على حكم ثبت بالاستصحاب عند القائلين به: الحكم بحياةِ المفقود حتى يرد ما يُثبت وفاته.

·       سد الذرائع

عدَّ فقهاء المالكية والحنابلة سدَّ الذرائع مصدرًا من مصادر التشريع، ودليلهم في ذلك ورود عددٍ من النصوص الشرعية التي حرمت أمورًا؛ لأنَّها تؤدي إلى الحرام، وذهب الحنفية والشافعية إلى عدم اعتبار سدِّ الذرائع مصدرًا من مصادر التشريع.

سد الذرائع هو منع ما كان مباحًا لأنَّه وسيلةً إلى الحرام.

مثال على حكم ثبا بسد الذرائع عند القائلين به: منع الشرع الحنيف سبَّ الأوثان والأصنام؛ إذ أنَّ ذلك مفضيًا إلى سبِّ عبَّادهم للذات الإلهية.

·       قول الصحابي

عدَّ الحنفية والمالكية قولَ الصحابي مصدرًا من مصادير التشريع، وأنَّه مقدمٌ عندهم على القياس، ودليلهم في ذلك قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)، بينما ذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم اعتبار قولِ الصحابي حجةً، وبناءً على ذلك فيجوز للمسلمين مخالفةَ أقوالهم

قول الصحابي هو آراء واجتهادت المسلمين الذي لازموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وماتوا على الإسلام. مثال على حكم ثابت من قول الصحابي: قول ابن عمر برفع اليد في صلاة الجنازة.

·       شرع من قبلنا

ذهب فقهاء الحنفيّة، والحنابلة، وبعض فقهاء المالكيّة، والشافعيّة إلى أنَّ شرعَ من قبلنا مصدرًا من مصادر التشريع، مستدلين بقوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)

شرع من قبلنا هو الحكمُ الشرعيِّ الذي قصَّه القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة من شريعة الأنبياء السابقين، ولم يقم دليلٌ من القرآنِ الكريم أو السنة على إقراره أو إلغائه.

مثال على حكم ثبت عن شرع من قبلنا: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي بعد رجوعه إلى التوراة.

 

الفصل الثالث

خصائص الإسلام

الإسلام هو دين الله تعالى الذي ارتضاه للبشريَّة إلى يوم الدِّين، لذا جاءت خصائص هذا الدين منسجمة مع طبيعة الإنسان ووظيفته في الأرض، وفيما يأتي عرض موجز لأهم خصائص الإسلام:

·       والتوازن

أنَّ الإسلام دينٌ متوازنٌ لا يعتني بجانبٍ ويهمل الآخر، فلا يعتني بجانب المال ويهمل الصحَّة، أو يعتني بجانب العبادة الروحيَّة ويهمل الجسد. أمر الله بمبدأ الحياة المتوازنة قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيْمَا ءَاتىك الله الدَّرَ الأَخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ المُفْسِدِيْنَ

·       المساواة

فالكلُّ بنو آدم و آدم من تراب، وليس لبشرٍ منزلةً يَستَعبُد بها الآخرين، ولا يوجد في الدِّين تفريقٌ بين النَّاس إلَّا بما لهم من حقٍّ جاء به الشَّرع، ولا يرضى الله تعالى الظلم، وأيُّ دعوةٍ للظلم أو التفرقة بين النَّاس فالإسلام بريء منها.

·       العدل

حيث إنَّ الأحكام الشَّرعيَّة التي تنظِّم المعاملات بين النَّاس ما جاءت إلَّا لمنع الظُّلم وإقامة العدل وإعطاء كلِّ ذي حقٍ حقَّه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾.

·       الواقعيَّة

أي لا يُطالب العبد إلَّا بما يقدر عليه، ولا يلزمهم في أموالهم بما يفوق طاقتهم، ولم يحرِّم عليهم ما يستحيل استغناء النَّاس عنه، فلم يحرِّم الزَّواج أو التِّجارة؛ لأنَّ واقع النَّاس لا يمكن أن يستقيم إذا فقدوا هذه الضروريات.

·       الإخاء

حيث الأخوَّة بين أبناء العقيدة الواحدة، وهي قيمةٌ جامعةٌ لكلِّ المسلمين، تلغي الفوارق بين المسلم وأخيه، والمبنيَّة على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).

·       الشورى

بإشراك أهل الاختصاص والعلم والخبرة في اتخاذ القرارات المهمّة في البلاد وحتى في الأسرة.

 

الفصل الرابع

مقاصد الشريعة الإسلامية

مقاصد الشريعة الإسلامية عرّف اهل العلم المقاصد على أنّها الأهداف، وبيّنوا أنّ للشريعة الإسلامية أهدافاً عامةً وأخرى خاصّةً، فأمّا العامة فهي الأهداف التي تهمّ المجتمع بأكمله، لتحقيق مصالحه في الدارَين، وأمّا الخاصّة فهي التي تختصّ بصعيدٍ معينٍ، كالجانب السياسيّ، أو الاقتصاديّ، وما إلى ذلك، وممّا يندرج تحت مفهوم مقاصد الشريعة الإسلاميّة ما يُعرف بالكليّات الخمس، وفيما يأتي بيانها:

·       حفظ الدين

اعتبر الإسلام حفظ الدين أهمّ ضرورات الحياة، وعلى رأس الكليّات الخمس؛ وذلك لأنّ بالدين يحيا الإنسان، فهو الذي يُولّد الضمير لديه، ويزرع فيه بذور الخير والفضيلة، وممّا يدلّ على ذلك قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، ومن أوجه محافظة الشريعة الإسلامية على الدين أنّها حفظته على صعيدين؛ أمّا الصعيد الأول فهو قائم على غرس الدين في النفوس، وتقويته في الصدور، وأمّا الثاني فهو الحرص على ديمومته واستمراريته، ومن الوسائل التي شرعتها لتحقيق الأهداف على الصعيدين ما يأتي: اعتماد العقل والحُجّة والبرهان الأساس الذي تنطلق منه أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها، وذلك دعت إلى التأمّل والتدبّر في كلّ آيات الله في كونه. تعزيز مفهوم اليقين بالإيمان، وأركانه. تشريع أركان الإسلام التي عُدّت أصول الدين وثوابته، فهي الوسيلة التي تربط العبد بالله عزّ وجلّ. الحرص على كفالة حرية الاعتقاد والتديّن، فلم يُكره الإسلام أحداً على دخوله. جعل الجهاد من شرائع هذا الدين؛ وذلك لحمايته وتمكينه.

·       حفظ النفس

أوضح الإسلام أنّ الحياة حقّ أساسيّ لا يُمكن التنازل عنه، وقد شرع العديد من الطرق التي تساعد على حفظ حقّ الحياة، ومن ذلك تشريعه الزواج؛ لتحقيق التكاثر البشريّ، وقد خص الإسلام العلاقة الزوجية بقدسيّةٍ عظيمةٍ، وبيّن أنّها من أسمى العلاقات على الإطلاق، فقد قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)،[٩] ومن الأمور التي حفظ فيها الإسلام حقّ الحياة أنّه أوجب على الدولة توفير الأمن؛ لحماية المواطنين، وأوجب على الفرد تناول الطعام، والشراب، وارتداء الملابس، واتخاذه مسكناً له، وإضافة إلى ذلك حرّم الإسلام قتل النفس، وقتل الغير، وغير ذلك الكثير.

·       حفظ العقل

 كرّم الله -تعالى- الإنسان بالعقل على سائر المخلوقات، وشرع الكثير من الأمور التي تحفظ العقل، ومنها تحريم كلّ ما يُذهبه، مثل: الخمر، والحشيش، ووضع عقوبة رادعة لمن يرتكب هذه الآثام، فقد عزّز الله -تعالى- مكانة العقل فدعا الإنسان إلى استعماله للتفكّر في آياته وملكوته، وكذلك ترك الباب له مفتوحاً؛ لإيجاد تشريع لكلّ ما لم ينزل به نصّ.

·       حفظ النّسل

ويُقصد به حفظ الوجود البشريّ على الأرض، وممّا شرعه الإسلام لتحقيق ذلك: تشريع الزواج والترغيب فيه، فقد حصر الإسلام العلاقة الصحيحة بين الرجل والمرأة في الزواج، وأمر بما يمنع العلاقات الفوضوية بين الجنسين، ومن ذلك تشريع غضّ البصر لكلّ جنس عن الجنس الآخر، والأمر بالحجاب الساتر منعاً لإثارة الفتن، تحريم الزّنا، والقذف، بالإضافة إلى ذلك عني الإسلام بالأسرة، وتربية الأبناء تربيةً صحيحةً.

·       حفظ المال

عدّ الإسلام المال إحدى ضروريات الحياة، ووازن بين رغبة الإنسان في التملّك، والابتعاد عن الإسراف، وحصر المال في أيدي فئةٍ محدّدةٍ من الناس، ومن الوسائل التي شرعها لتحقيق ذلك: التشجيع على كسب الرزق، واعتبار السعي في طلب المال إذا تحقّق صلاح النية، وإباحة العمل عبادة يتقرّب بها المسلم إلى الله تعالى. إعلاء شأن العاملين الساعين لكسب الرزق، والرفع من شأن أعمالهم، وممّا يدلّ على ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيراً من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه).[١٠] تحريم الاعتداء على مال الآخرين، سواءً كان ذلك بالتحايل، أو الخداع، أو السرقة، أو غير ذلك من الأساليب المحرّمة. تحريم إنفاق المال في الطرق غير المباحة، والتحذير من الإسراف والطغيان في المال. وضع الضواط الشرعيّة في المحافظة على أموال القاصرين واليتامى. إقرار العقود المباحة التي لا يشوبها الاعتداء على أموال الآخرين أو ظلمهم.

 

الفصل الخامس

مقامات الإسلام

 اجتهد بعض أهل العلم من خلال استقرائهم للآيات الكريمة والأحاديث النبويّة ومقاصد الإسلام عموماً باستنباط مقاماتٍ للإسلام تبعاً لِما يراه هذا العالِم أو ذاك، وتبقى هذه المقامات في ترتيبها مسألةً اجتهاديّة، ومن هذه الاجتهادات ما يأتي:

·       مقام الإسلام

 وهو المقام الأوَّل الذي يدخل به المكلَّف لهذا الدين، قال -تعالى-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، فالآية تشير إلى المقام الأوَّل وهو الإسلام، حيث يدخل المرء في هذا المقام مجرَّد إسلامه.

 

أركان الإسلام

 إنَّ أركان الإسلام الخمسة تجمَّع بين الجانبين الاعتقادي والعملي، إذ إنَّ الرُّكن الأوَّل منها يُعدُّ اعتقادياً، بينما كانت الأركان الأربعة الأخرى أركاناً عمليَّةً، والأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام هي: الشّهادتان، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصوم رمضان، وحجُّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ولا يكتمل إسلام المرء إلَّا بهذه الأركان كلِّها مجتمعةً، ولو تُرِك ركنٌ منها اختلَّ إسلام المرء ولم يكتمل، نورد تفصيل وتوضيح هذه الأركان مرتّبةً فيما يأتي:

·       الشَّهادتان:

وهي شهادة أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، أي اعتقاد العبد بأنَّه لا معبود بحقٍّ إلَّا الله -تعالى-، وأنَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً -صلّى الله عليه وسلّم- هو نبيُّ الله -تعالى- الذي أرسله رحمةً للعالَمين، والنُّطق بهاتين الشَّهادتين دلالةً على إقرار المرء بهما، وهما المفتاح الذي يدخل بهما المرء للإسلام، وكلُّ أعمال المسلم تدخل فيها الشَّهادتان، إذ إنَّ أساس قبول الأعمال عند الله -تعالى هو أمران: الأوّل هو الإخلاص لله -تعالى- في العمل، وهو مقتضى قول المسلم "لا إله إلّا الله"، والثَّاني هو اتِّباع الرَّسول -صلىّ الله عليه وسلّم-، وهو مقتضى قوله "محمّد رسول الله"، ومن شهد بهاتين الشَّهادتين نال رضا الله -تعالى- وسعد في دنياه وآخرته، وتحرَّر من الانصياع لغير خالقه، ونجا من الهلاك والعذاب.

·       إقام الصّلاة:

والصّلاة هي الصّلة بين العبد وربّه، وهي عمود الدّين وأعظم أركان الإسلام بعد الشّهادتين، وهي واجبةٌ على كلّ مسلم عاقل، ولا تسقط عنه مهما كان عذره، بل تُخفّف عن أصحاب الأعذار بأحكامٍ خاصّة، وتُفرض على المسلم من سنّ البلوغ، إلّا أنّه يحبّذ تعليم الأطفال عليها قبل البلوغ منذ عمر السّابعة؛ لتتعلّق أنفسهم بالصّلاة، والصّلوات المفروضة هي خمس صلوات في اليوم والليلة، وهم: الفجر والظّهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وقد حدّد الله -تعالى- أوقاتاً مخصّصة لكلّ صلاة لا تصحّ أيٌّ منها إلّا بوقتها، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). كما وضع الإسلام أحكاماً وشروطاً لهذه الصّلوات؛ كوجوب الطّهارة وغيرها من الشّروط، وحدّد لهذه الصّلوات هَيْئات وأعداد ركعاتٍ مخصوصة، ومَنْ داوم على الصّلاة والتزم بها قطف ثمارها التي لا حصر لها، فالمصلّي في راحةٍ دائمة؛ لقربه الدّائم من ربّه، فينشرح صدره، وتقرّ عينه، كما تنهاه صلاته عن الوقوع بالمنكرات والفواحش، وهي توحّد المسلمين وتزيد من ترابطهم.

·       إيتاء الزَّكاة:

وهي أن يُعطي المسلم المقتدر الذي يملك النِّصاب مالاً حدَّده الشَّرع لمن يستحقُّه من الفقراء والمساكين، وتؤدَّى هذه الفريضة مرَّةً واحدةً في كلِّ عامٍ، والنِّصاب محدَّدٌ وثابتٌ في الشَّريعة الإسلاميَّة، حيث إنَّ نصاب الذَّهب هو عشرون مثقالاً أو ما يعادله من المال، والفضَّة نصابها مئتا درهمٍ أو ما يعادلها، كما تجب الزَّكاة على عروض التِّجارة والبضائع، والزُّروع والثِّمار، أمَّا المقدار الواجب للزَّكاة في الذَّهب والفضَّة وعروض التِّجارة هو 2.5% في كلِّ عامٍ. أمَّا الزُّروع والثِّمار فمنها ما بذل صاحبها جهداً ومشقّةً في سقيها، فهذا يُخرِج 5% من محصوله، ومن كانت زروعه تُسقى لوحدها بماء الأمطار يُزكِّي بمقدار 10% من مجموع محصوله، وقد فرض الله -عز وجل- الزَّكاة على المسلمين؛ ليحقّق التَّكافل الاجتماعي في المجتمع، فتَطْهُر نفس الغنيِّ من الشحِّ والبخل، وتطيب نفس الفقير وتُسَدّ حاجته، وتزيد أواصر المحبَّة بين المسلمين، قال -تعالى- في فرض الزَّكاة: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

·       صوم رمضان:

وهو أن يمتنع المسلم في نهار شهر رمضان عن كلِّ المفطرات؛ من الطَّعام أو الشَّراب أو الجِماع، من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس، وشهر رمضان هو تاسع الأشهر الهجريَّة، وقد شرع الله -تبارك وتعالى- الصِّيام على المسلمين؛ لِما فيه من فوائد جمَّةٍ تعود عليهم؛ فهو يُزكِّي النَّفس ويُعوِّدها على التَّرفُّع عن الشَّهوات وكلُّ ما ترغبه لأجل رضا الله -تعالى-، ويعوِّدها على التَّحمُّل والصَّبر على الشَّدائد، كما يتعوَّد الصَّائم على شعوره بالفقراء وأصحاب الحاجة، ويستشعر مراقبة الله -تعالى- الدَّائمة له. والصِّيام فرضٌ على كلِّ مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ قادرٍ على الصِّيام، وإنَّ من رحمة الله -تعالى- أنَّه شرع أحكاماً خاصَّة له، فقد أجاز الشَّرع للمريض أو المسافر أو المرأة الحامل أو المرضعة أن يفطروا في شهر رمضان، على أن تُقضى الأيام الفائتة بعده، كما أوجب على الحائض والنُّفَسَاء ترك الصِّيام والقضاء بعد رمضان، ومن رحمة الله -تعالى- أيضاً أنَّه عفا عمَّن أكل أو شرب ناسياً في نهار رمضان.

·       حجُّ البيت:

وهو قصْد بيت الله الحرام في مكّة المكرَّمة من أجل أداء شعائر الحجِّ، ويجب الحجُّ مرةً واحدةً في العمر، ومن زاد أكثر فيعدُّ له تطوُّعاً، والحجُّ فرض على من استطاع إليه سبيلاً، أي من تكون عنده القدرة الجسديَّة والماديَّة، وقد جعل له الله -تعالى- أحكاماً خاصَّة؛ كوجوب الوقوف بعرفة، والوقوف بمزدلفة ومِنى، والله -تعالى- لمَّا فرض هذه الفريضة العظيمة إنَّما أراد للمسلم ترويض نفسه على بذل الجهد والمال لنيل رضاه -سبحانه-، كما أراد للمسلمين أن يجتعموا من كلِّ فجٍّ ليتعارفوا بينهم، ولتذهب الفوارق بينهم، فيجتمع الحاكم والمحكوم، والفقير والغنيِّ، كلُّهم بنفس اللِّباس ونفس الهيئة، كما يجعل المسلم يتذكَّر اليوم الآخر ويستعدُّ له.

 

·       مقام الإيمان

 وهو موجودٌ في الآية السَّابقة، حيث أثبتت لهم الآية مقام الإسلام ونفت عنهم وصولهم إلى مقام الإيمان، ولمقام الإيمان منزلةٌ أعلى من مقام الإسلام، لا بدَّ للمسلم أن يجتهد في طاعاته وقراباته ليصل إليه، قال -تعالى-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

 

 

·       تعريف الإيمان لغة واصطلاحا

يُعرَّف الإيمان في اللُّغة: بأنه مُطلق التصديق، وأمّا في الاصطلاح فهو: تصديقُ القلبِ وإذعانُه وقَبوله بِكُلّ ما جاء به النّبي -عليه الصّلاة والسّلام-، وجعل الله -تعالى- الشّهادتين العلامة الظَّاهرة التي تدُلُّ عليه؛ لإجراء أحكام الإسلام على الشَّخص المؤمن، كالصَّلاة عليه وصحة التَّوارث منه وله وغيرها من الأحكام.

 

·       أركان الإيمان

للإيمان ستةُ أركان، وهي كما يلي: الإيمان بالله -تعالى-، وأنه واحد لا شريك له، فلا تقرن معه غيره في العبادات، والتشريع. الإيمان بالملائكة، وأنّها مخلوقات نورانية؛ أوْجدها الله لتنفيذِ أوامره. الإيمان بالكُتُب، وهي التَّوراة والإنجيل والزبور والقُرآن وهو أفضلُها. الإيمان بالرُّسل، وخاتمهم النَّبي محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام-. الإيمان باليوم الآخر، وهو يوم القيامة؛ لمُحاسبة الإنسان على أعماله. الإيمان بالقضاء والقَدَر خيره وشره؛ لأنه قدر الله -تعالى-، وقع بحكمته ومشيئته.

 

·       الإسلام

ويُعرف في اللُغة : أنه الاستسلام والانقياد، وفي الاصطلاح فهو: الاستسلام والانقياد لأمر الله -تعالى- طوعاً وكراهية، لقوله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). وأمّا أركانه فقد جاءت في حديث النَّبي -عليه الصلاة والسلام-: (بُنِيَ الإسْلامُ علَى خَمْسٍ، شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وحَجِّ البَيْتِ، وصَوْمِ رَمَضانَ)، فأوَّلها الشهادتيْن وتكون بإخلاص العمل لله -تعالى-، وموافقته لشرعه، ثُمّ إقامة الصلاة والقيام بها بجميع واجباتها وشُروطها وأركانها، ثُمّ إيتاء الزكاة وصرفها لمُستحقيها، ثُمّ صوْم رمضان، ثُمّ حجُ البيت.

 

·       الإحسان

وهو مُراقبة العبد لخالقه في جميع أحواله، سواءً أكان في السر أو العلن، والمُبادرة إلى فعل الخير؛ مع قصد الله -تعالى- في كلِّ امره، ويكون الإحسان بإخلاص الأعمال لله -تعالى-، وفعل ما يُحبه، وأداؤه على الوجه الأكمل، لقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا).

 

·       زيادة الإيمان ونقصانه

يزيد الإيمان بطاعة الله -تعالى-، وينقُص بمعصيته، وجاءت الكثير من الأدلة التي تُؤكد ذلك، كقوله تعالى: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا)، ومعنى زيادته: أي بُعدُ صاحبه عن الشك والشُبهة، ونُقصانه يكون بالشك والشُّبهة، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- من أقوى وأرسخ الناس إيماناً.

 

·       حلاوة الايمان

للإيمان حلاوةٌ وطعم يكون بالقلب كما للأكل حلاوة، فالإيمان غذاءٌ للقلب كما أن الأكل غذاءٌ للبدن، فلا يذوق الإنسان حلاوة الطعام عند مرضه وكذلك لا يصل لحلاوة الإيمان عندما يكون قلبُه مريضاً، بل قد يستحلي ما فيه هلاكُه.

وتوجد العديد من الأدلة التي ذكرت الصِّفات التي يُمكن من خلالها الوصول لهذه الحلاوة، ومنها: قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ بهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ: مَن كانَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِواهُما، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أنْ أنْقَذَهُ اللَّهُ منه، كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ).

ويكون ذلك بتقديم أوامر الله -تعالى- ورسوله على ما سواهما، ومحبة الناس وخاصةً الوالدين؛ لأن الله -تعالى- أمره بمحبتهما، وكذلك التحلي بالأخلاق الحسنة، وهذه الصفات تجعل في قلب العبد الإيمان المُطلق بقدرة خالقه، وأنه الوحيد المُعطي المانع.

 

قوة الإيمان وأسبابها

توجد العديد من الأسباب التي تزيد في الإيمان وتُقوّيه، ومنها ما يأتي:

·       العلم

 كالعلم بالله -تعالى-، وأسمائه، وصفاته، وسيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- وبكُل ما جاء به، لقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

·       العبادة

 من حيث الإكثار من الطاعة، والبُعد عن المعصية؛ للوصول إلى التقوى واليقين.

·       الذكر والتفكر

 لقوله تعالى: (الَّذينَ آمَنوا وَتَطمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللَّـهِ أَلا بِذِكرِ اللَّـهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ)، والفكر يكون بآيات الله -تعالى-، وثوابه، وعقابه، وإحسانه لخلقه مع بُعدهم عنه.

·       الصمت الحكيم

 من خلال التقليل من الكلام الذي لا فائدة منه، وليس الصَّمت عن الباطل وتغيير المُنكر، لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ).

·       السَّيْر في الأرض

 لأخذ العبرة والذكرى: وقد جاءت العديد من الآيات التي تحُث على السَّيْر في الأرض والتفكر، كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

·       المُشاركة في أعمال الخير الجماعيّة

 لما في ذلك من زيادة في الإيمان والطاقة الإيمانيّة.

·       الدعاء

 لما في ذلك من طلب الإيمان من صاحبه وهو الله -تعالى-.

·       الاستماع لتلاوة القُرآن الكريم بخشوع وطُمأنينة

لقوله تعالى: (إِنَّمَا المُؤمِنونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَت قُلوبُهُم وَإِذا تُلِيَت عَلَيهِم آياتُهُ زادَتهُم إيمانًا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ).

·       الصّوم

 لما فيه من إبعاد الجوارح عن المعاصي.

·       الصُّحبة الصَّالحة

 لقوله تعالى: (وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ وَلا تَعدُ عَيناكَ عَنهُم تُريدُ زينَةَ الحَياةِ الدُّنيا وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا).

·       الاتِّصاف بالأخلاق الفاضلة.

علامات قوة الإيمان

لقوة الإيمان العديد من العلامات، ومنها ما يأتي:

·       الاستسلام للشرع وسُرعة الانقياد له

فقد بيّن الله -تعالى- في القُرآن أنّ من آثار الإيمان الوقوف عند حُدوده، كقوله تعالى: (إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥١﴾ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّـهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)، وجاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- قولهم في قوّة التزامهم: لو أمرنا الله بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا.

·       واليقين الكامل بالله -تعالى-

بأنَّه الخالق، والرازق، والقادر، وغيره لا يملك شيئاً، لقوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فلا يتشاءم لما قد يُصيبُه من بلاء.

·       دفْعُ وساوس الشيطان

التي قد تصل بالإنسان إلى الشُبهات والشكِّ في العبادة والدين؛ فيلتجئ المؤمن لخالقه لدفع هذه الخواطر والوساوس.

·       المحبة في الله -تعالى-

واستشعار الأُخوة الإيمانيّة، فيُحبهم كمحبته لأهله، ويتمنى لهم الخير كما يتمناه لنفسه.

·       البُغض لأعداء الله -تعالى- والبُعد عنهم

وهذا من باب الولاء لله ونُصرته، ومحبة أهل الطاعة، والبراء من أهل الشرك، لقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).

·       التخلُّقُ بالأخلاق الحسنة

فالإيمان يدفعُ صاحبَه للأخلاق الحسنة، ويُبعده عن الأخلاق المُنكرة.

·       الوقوف في مواجهة الفتن

لقوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

 

ضعف الإيمان وأسبابه

لضُعف الإيمان العديد من الأسباب، ومنها ما يأتي:

·       البُعد عن الأجواء الإيمانيّة زمناً طويلاً

لقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)؛ وقد جاء عن الحسن البصريّ قوله: أن الصُحبة الصالحة أفضل من الأهل؛ لأنهم يُذكرون بالآخرة والأهل يُذكرون بالدُنيا.

·       البُعد عن القُدوة الصالحة

فالقُدوة تُعلِّم العلم والعمل، ممّا يزيد في الإيمان.

·       الانشغال بالدُنيا حتى يُصبح الإنسان عبداً لها

بالإضافة إلى انشغاله بالزوجة والمال والأولاد، وتقديمهم على طاعة الله -تعالى- ورسوله، لقوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

·       طول الأمل

 ممَّا يوَلّد عند الإنسان الكسلَ وحُبّ الدُنيا وتأخير في الأعمال الصالحة وقسوة القلب.

 

أثر الإيمان على الفرد والمجتمع

لللإيمان العديد من الآثار الإيجابية التي تعود على الفرد والمُجتمع، ومنها ما يأتي:

·       طُمأنينة القلب والنفس، والسعادة والراحة، لقوله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

·       الشجاعة وعدم الخوف إلا من الله -تعالى-؛ لأن المؤمن يعلم أن كُلَ شيءٍ بيد الله -تعالى- وحده.

·       الاستقامة والتقوى؛ لمُراقبة المؤمن لخالقه.

·       التحرير من العقائد والأفكار الباطلة والثقة بالعلم والإيمان.

·       السَّير إلى الله -تعالى- والثّبات على ذلك في الشِّدة والرَّخاء، لقول النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له).

·       الوحدة والوِفاق بين المؤمنين؛ لكثرة ما يجمع بينهم من أُمور كالإيمان بالله والنبي ووحدة القِبلة والطاعة، فقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).

·       المُحافظة على النَّفس والمال؛ من خلال البُعد عن الفساد وتضييع المال بما هو مُحرّم.

·       الحرص على الأعمال التي تُفيد المرء في الدُّنيا وفي اليوم الآخر، لقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).

·       الشُعور بالعزَّة؛ لمعرفته بأصله وخالقه.

·       العلم بعظمة الخالق وقوَّتِه؛ من خلال التَّعرف إلى صفاته ومخلوقاته.

·       مُشاركة المؤمن الفعَّالة في مُجتمعِه والصالح العام، وصحْوةُ ضميره، وامتلاء قلبه بالسَّكينة والتفاؤل، والحثّ على العمل؛ ممَّا يُبعده عن الفقر والحاجة.

·       الدَّعوة إلى الزِّيادة في التحصيل العلمي وإدراك ما حوله من العوالم، وخاصةً أصل الإنسان، والغاية من وجوده، ومصيره.

·       الوصول بالإنسان إلى معالي الأخلاق، وقد جاءت العديد من الأدلة التي تربط بين الإيمان والأخلاق، كقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ).

 

 

·       مقام الإحسان

تعريف الإحسان لغةً الإحسان لغةً: أصل كلمة الإحسان في اللغة من حَسُنَ، والإحسان نقيض الإساءة، يُقال: رجلٌ مُحسنٌ ومِحسانٌ؛ أي أنَّه كثير الإحسان، وقد فسّر النبي -عليه الصلاة والسلام- الإحسان في الحديث المشهور الذي يرويه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين سأل جبريل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عن الإحسان فأجاب بقوله: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)

والمقصود بالإحسان هنا الإخلاص، ولا يَصل الإنسان للإحسان إلّا بأن يكون مُسلماً حقاً، وأن يُؤمن بالله إيماناً خالصاً، ويَطمئنّ قلبهُ بالإيمان، فمن الإحسان استشعار مُراقبة الله؛ فإذا أراد أن يُصلي يشعر برقابة الله؛ فيُصلي بحضورٍ تامٍ وخشوع.[٢] الإحسان في اللغة نقيض الإساءة، وقد يأتي أيضاً بمعنى الإخلاص.

 

تعريف الإحسان اصطلاحًا أمّا الإحسان اصطلاحاً فهو: أن يَعبد المسلم خالقهُ جلَّ وعلا؛ بحيث تكون عبادتهُ على وجه الحضور مع استشعار مُراقبة الله سبحانه وتعالى، فيَشعر وكأنّه يرى الله سبحانه وتعالى ويُراقبه، ويَتّيقن أنَّ الله مُطّلِعٌ عليه، وناظرٌ إليه؛ ممّا يدفع المسلم إلى دوام طاعة الله، ويدفعه كذلك لزيادة التقرّب إلى الله، وهو رادعٌ قويٌ عن المعاصي.[٣] قال بعض العلماء: الإحسان هو العبادات والأعمال التي يَتقرّب بها المسلم إلى الله تبارك وتعالى من النوافل التي لم يفرضها الله على المسلم؛ فاعتبر العلماء أن التزام النوافل يُعتبر من الإحسان.[٤] يعرف الإحسان في الاصطلاح على أنه إخلاص المسلم في عبادته لله تعالى، ودوام توجهه إليه، مع الاستشعار الدائم لوجود الله تعالى ومراقبته للعبد. أنواع الإحسان الإحسان ثلاثة أنواع؛ اثنان منهما يتعلقان بعبادة الله سبحانه وتعالى، والثالث يتعلق بالقيام بحقوق المخلوقات:[٥] الإحسان المُتَعلق بعبادة الله حيثُ يتحقّق في عبادة الله سبحانه وتعالى؛ خوفاً منه وهرباً إليه، ولا يكون ذلك إلّا باجتناب نواهيه سبحانه، والإقبال على طاعته، والتزام أوامره وما يُرضيه؛ فقال تعالى: ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ).[٦] الإحسان المُتَعلق بعبادة الله عبادة الشوق ولكنَّه أعلى مرتبةً من النوع الأول؛ فالإحسان هنا يَتَعلق بعبادة الله عبادة الشوق، والأُنس بقربه سبحانه وتعالى، وتَتَحقق هذه العبادة حينما يَصل المؤمن إلى درجةٍ يُصبح فيها مُشتاقاً إلى عبادة ربه سبحانه وتعالى، وحَريصاً على أداء العبادة؛ لما يشعر به من لذّة بمناجاة الله، والقربِ منه، والأنس به. وقد وَرد عن النّبي -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال:(سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تعالى في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إمامٌ عدلٌ، وشابٌّ نشأَ في عبادةِ اللهِ، ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تحابَّا في اللهِ، اجتمعا عليهِ وتفرَّقا عليهِ، ورجلٌ دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ ، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ )،[٧] فإشارته -عليه الصلاة والسلام- إلى الرجل الذي تعلّق قلبه بالمساجد تدل على هذا النوع من أنواع الإحسان. الإحسان في القيام بحقوق جميع الخلق ويَتحقّق هذا النوع من الإحسان؛ من خلال الإحسان إلى الوالدين، وكذلك صلة الرحم، والإحسانُ في إكرام الضيف، والإحسانُ في مساعدة الفقير، ومن الإحسان في هذا الباب الإحسانُ إلى الحيوانات، فقد رُوي عن الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليهِ العطَشُ فوجدَ بئرًا فنزلَ فيها فشرِبَ ثمَّ خرجَ فإذا كلبٌ يلهَثُ يأكلُ الثَّرَى منَ العطَشِ فقالَ الرَّجُلُ لقد بلغَ هذا الكلبَ منَ العطشِ مثلُ الَّذي كانَ بلغَ بِي فنزلَ البئرَ فملأ خفَّهُ ثم أمسَكهُ بفيهِ فسقى الكلبَ فشكرَ اللَّهُ لهُ فغفرَ لهُ قالوا يا رسولَ اللَّهِ وإنَّ لنا في البهائمِ أجرًا فقالَ في كلِّ ذاتِ كبِدٍ رطبةٍ أجرٌ).[٨] للإحسان أنواع عديدة، ومنها: الإحسان في عبادة الله تعالى، والإحسان في عبادة الله تعالى عبادة الشوق، والإحسان في أداء حقوق العباد. الفرق بين الإحسان والإيمان والإسلام من أجمل ما ورد في التفريق بين مراتب الدين الثلاث (الإسلامُ، والإيمانُ، والإحسان)؛ الحديث الذي يرويه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذ يقول: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت، قال فعجبنا له، يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان. قال ثمّ انطلق، فلبثت ملياً. ثم قال لي: يا عمر: أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)،[١] يتضح من الحديث السابق أن لكلٍّ من الإسلام والإيمان والإحسان مفهوم خاص يتميز به عن غيره، وله أركان لا بد من الإتيان بها لكي يصح؛ فالإسلام له خمسة أركان وهي: الشهادتان، والصلاة، والصيام، والزكاة، وحج البيت للمستطيع، بينما أركان الإيمان ستة وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأخيراً الإحسان يعني أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومما سبق يتضح أيضاً أن مرتبة الإحسان تفوق مرتبة الإيمان والإسلام، وفي كلٍّ خير.[٣] يختلف الإحسان عن الإسلام والإيمان، ولكل واحدة من هذه المفردات مصطلح خاص به، وأركان لا بد من تواجدها فيه، وقد تم بيان ذلك بالتفصيل. الإحسان في القرآن الكريم وَرد الكلام عن الإحسان في عدة مَواضع في القرآن الكريم منها الآتي: قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)؛[٩] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وقوله: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة، ومعنى الذين اتقوا أي تركوا المحرمات، والذين هم محسنون أي فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم).[١٠] قال الله تبارك وتعالى في معنى الإحسان: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ* إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).[١١] فالله سبحانه وتعالى يرى الإنسان حال توكله التامُّ على الله وحال قيامه بما عليه من العبادات وبما ليس واجباً وإنما نافلةً وزيادةً على الفرض تحقيقاً لمرضاة الله.[١٢] قال الله تبارك وتعالى، وأورد في القرآن من المعاني التي تدل على الإحسان أيضاً؛ حيثُ قال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).[١٣] جاء ذكر الإحسان في العديد من الآيات القرانية، وإن دل ذلك على شيء فهو دليل على أهمية الإحسان وعظيم مرتبته. مقامات الإحسان لقد خلَق الله تبارك وتعالى السماوات والأرضِين وما فيهما لغاية سامية، وحكمة عظيمة، وجعل الحياة والموت ابتلاء للإنسان بإحسان عمله وصدقِ تقربه إلى الله سبحانه؛ فسخّر الحياة والموت ليَبتلي الناس أيُّهم أحسَنُ عملاً، ووردت العديد من الآيات في القرآن الكريم لتُقرّر هذا المعنى، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).[١٤] وحتى يَسير المؤمنُ في درب الإحسان في جميع ما يَصدر عنه من أعمالٍ، وأقوالٍ، وتصرّفات؛ فإنَّ عليه معرفة الله سبحانه حق المعرفة، وعليه كذلك مراقبته سبحانه وتعالى في كلّ الأحوال، وأن يَتيقّن بأنّ الله سبحانه مُطّلعٌ عليه، وناظرٌ إليه، وأنّ الله على كلّ شيء رقيبٌ شهيد؛ لا يغيب عن علمه مِثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، فيَسمو بإحسان العمل وتَعظيم الله كأنَه يراه، ويَلتزم أوامر الله، ويَجتنب نواهيه، ويَبتعد عن كلِّ ما يُغضبه من آثامٍ، ومعاصي؛ استشعاراً لمراقبة الله سبحانه له في جميع أعماله، وحركاته، وسكناته.[١٥] إنّ للإحسان مقامين أوردهما الإمام ابن رجب في كتبه، وهما على النحو الآتي:[١٦] مَقامُ الإخلاص: وهو اجتهاد المؤمن في استحضار رؤية الله تبارك وتعالى له، واطِّلاعه عليه، وقُربه منه؛ فالمؤمن إذا استحضر رؤية الله تبارك وتعالى له في جميع عمله، وعَمِل بناءً عليها، فهو مُخلصٌ لله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ استحضار المؤمن رؤية الله له في عمله، سيمنعه من الالتفات إلى أي أمرٍ، أو أي شيءٍ غير مرضاة الله، وهذا هو مَقام الإخلاص في الإحسان. مَقام الشهادة: وهو عَملُ المؤمن على مقتضى رُؤيته، ومُشاهدته لله بقلبه، وتَتحقّق مُشاهدة المؤمن لله بالمُشاهدة القلبيّة؛ بأن يَتنوّر قلبه بالإيمان، وتَتنوّر بصيرته بالعرفان، فإذا تَحققت هذه الرؤية القلبية، فقد أدرك المؤمن بهذا المَقام مَقام الإحسان وحقيقته. للإحسان مقامات متعددة، وقد ذُكر في المقال مقامين للإحسان وهما: مقام الإخلاص، ومقام الشهادة.

 

Postingan populer dari blog ini

Kun Ma'allah

Sejarah Dzikrul Ghofilin

CERAMAH HAUL DAN KEHARUSAN BERGURU